محمد و بشير “متشردان” في الطبيعة العذراء
الطبيعةُ لا تقبل التفاوض.. إما أن تحترم قوانينها أو تخسر
في مغامراتنا متعةٌ مضاعفة بثمنِ زهيد لا تعرفها “الفنادق الفاخرة”
حوار/ هديل عطا الله
هل فكرت يوماً في أن تنضم إلى رحلات التخييم في الجبال والغابات حيث أحضان الطبيعة الأخّاذة؟؛ مهلاً فالأمر ليس باليسير؛ فمن غير السهل مثلاً أن تعتلي صخرة ترولتونجا في النرويج؛تلك المعروفةبــ”صخرةسيمبا” والتي تعد من أخطر المناطق في العالم وأشهرها لمحبي الإدرينالين؛ ولكن الأخوان محمد و بشير أبو شقرة فعلا ما هو أكثر من هذا؛ كيف لا وهما يسيران على مبدأالروائي البرازيلي باولو كاويلو “إن كنت تعتقد بأن المغامرة خطرة، فجرب الروتين فهو قاتل”.
قدِما من مدينةأم الفحم قبل سنوات ليدرسان في جامعة ميونخ الألمانية؛ثم أدمنا التشرد في الطبيعة بخضارها وجبالهاو مروجها وأنهارها ولا يبدو أنهما سيشفيا من حبها؛ معاً يخططان لمغامرات مجنونة ورحلات تخييم في أوروبا؛ وبرفقة “القهوة العربية” يجوبان بقاعاً خلابة لم يطأها بشر.
من عكا أولاً
يدرس محمد الهندسة المعماريةوهو من يخطط للرحلات؛ و أخيه بشير يدرس الحاسوبويتولى مهمة التصوير من خلال “طائرةالدرون”- تحلّق بلا طيار- من زوايا يصعب الوصول إليها؛ وفي قناتهما على يوتيوب يجتهدان في عرض فيديوهات .AbuShakra Adventure؛ ونشر صور تثير غبطة المتابعون لهما على صفحة خاصة في (فيس بوك)
وينجحان في تحقيق معادلة التوازن بالرغم من حياتهما الجامعيةفهما يسكنان في بيتٍ بسيط، و إلى جانب الدراسة يعملان في أشغالٍمتواضعةمن أجل تأمين الجانب المادي، وعند تسني وقت الفراغ فإن محمداً يسارع إلى التخطيط لرحلةٍ حسب حالة الطقس وسرعان ما يتجهز بشير لها.
يبدأ محمد أبو شقرة حديثه بالقول: “في كل أسبوع نقرر أنا وأخي بشيرالبعد عن أجواء المدينة والجامعة والعمل؛لنشحن أنفسنا بطاقةٍإيجابية وحيوية استعداداً لأسبوع مقبل؛نعم يبلغ التعب منا مبلغه حين نسير مشياً لمدة قد تصل إلى 15 ساعة بين الجبالو البحيرات والوديان؛لكنه ما يلبث أن يزول حين نستلقي فوق العشب فور وصولنا المكان المنشود؛ هذه الجولات تمنحناالشعور بالحرية والراحة النفسية”.
ويعود إلى الماضي قليلاً؛ أي إلى أيام مسقط رأسه “أم الفحم” الواقعة في الأراضي المحتلة عام 1948: “الأجواء العامة في عائلتناساعدت على بث روح المغامرةِ فينا، أذكر جولاتنا مع أبي في أزقة عكا الزكية حين كنا نحتسي الشاي أثناء الشروقِ الساحر لنراقب السفن في الميناء؛ كأس الشايعلى ضفاف عكا أذاقنا طعم التحليق في الآفاق؛ كنا نلتحم بشكلٍ غريب مع الطبيعة، ويكبر حبنالها يوماً بعد يوم، نتلهف للقائها والغوص في أعماقها؛هذه “الطينة العائلية”كانت خصبة لإحياء المغامرة في عروقنا”.
وفيما يخص طبيعة فلسطين يؤكد: “في بلادنا الطبيعةخلابة؛ علاوةً على أنها مليئة بآلاف المسارات الرائعة؛ لكنها تريد من يكتشفها”.
نحو القمة
تحقيق هدف من هذا القبيل اقتضى من الرفيقين أسلوب حياة يقوم على الاقتصاد وترشيد الإنفاق وذلك من أجل ادخار المال بُغية تنفيذ مزيدٍ من المغامرات؛ فالأخوان يعمدان إلى استخدام البدائل بذكاء عالٍ؛ يوضح محمد ذلك بالقول: “في رحلاتنا الصيفيةنفضل المبيت في خيمة بدلاً منالفندق؛ و نكتفي بالمتاحونتجنبالمناطق السياحية؛ نحب أن تغلب على رحلاتنا طابعالتعب و التخطيط الذاتي بما يثير فينا شعور المسؤولية و التحدي”.
يتدفق منه الحماس والإيمان وهو يكشف عن الحقيقة التالية: “في كل زاويةٍ من هذا الكوكب هناك صورةٌ ساحرة تستحق أن تُعاش؛ والاستمتاع لا يتطلب فندق”خمس نجوم” وثلاث وجبات في اليوم؛ وبرِك سباحة”وماكل شارب نايم”؛ لأن تكاليف ليلةٍ من هذا الطراز من الممكن أن أخرج بها في عشر رحلات على الأقل؛ وقد جربتذلك بنفسي”.
في عام ٢٠٠٩، قرر محمد دراسة الهندسة المعمارية في ألمانيا؛ وحين دفعه حبه لمعرفةِ المحيط انطلق نحو تجربةِ مساراتٍ كثيرة، ثمانِ سنوات كانت كافية لتجريب كل أنواعها ومن ثم الإقدام على مغامرات أكثر جنوناً كتسلق الجبال الشاهقة، و الطيران فوقها وركوب الدراجات بين الوديان؛ كانت طبيعة تلك البلاد مناسبة جداً لهذه المغامرات؛ وفقاً لوصفه.
وفي عام ٢٠١٣ لحق بهأخيه بشير؛ ولحسن حظ الطبيعة أن قاسماً مشتركاً بينهما.. إنه الشغف بها؛ فموهبةبشير في التصوير و تحكمه المرن في كاميرا الطائرة(الدرون) ساعد على تخليد لقطاتٍ ساحرة لطبيعةٍعذراء “وفي كل شقٍ وورقة روايةٌ لعصفور طرِب وحكايات لــ”حيوانِ غابٍ”مضى”..إنها أبلغكلمات يمكن أن يتفّوه بها هذا الشاب.
(ماذا تتذكر عن رحلتك الأولى؟)بالطبع توقع محمد هذا السؤال؛ فجاء الجواب مبتسماً: “تلك الرحلةلم يسبقها أي تخطيط، بل هي المصادفة المحضة، أثناء زيارتي أنا وصديقي الى قلعةٍ في ولاية بفارياواجهتنا لافتةٌ كتب عليها “إلى القمة” فضولنا دفعنا للسير في ذلك الاتجاه، ارتدى الليل حلته السوداء ونحن نبحث عن “القمة”؛ واجهتنا الكثير من العقباتِ وضللنا الطريق وسط جبالٍ نائية الى أن وجدنا سلاسل كهربائية تقلّ الرحالة الى خارج هذه المنطقة وكانت مغلقة، وفي حالةٍ استثنائية قام العامل هناك بالسماح لنا”.. وهكذا وبعد أنكان الهدف لا يعدو عن مجردالترفيه؛ تطور رويداً رويداً إلى هوس ينتظراهآخر كلأسبوع.
امتنانٌ ومسؤولية
صاحبيّ الحكاية اكتسبا العديد من الخصائص الشخصية، يقول محمد: “التخييم في العراء، وتسلق الجبال والطيران جعلنا أكثر جرأة، حتى في حياتنا العادية اعتدنا أن نكونعلى جاهزية لكل خطوةٍ قادمة؛ وفي كل رحلةٍ ثمة نافذةتُفتح لنعيش الدهشة مجدداً ليتعاظمَ مفهوم القمة لدينا مرةً تلو مرة، لا سيما عندما ننصب خيمتنا بين الصخور ونصبّكأساً من الشاي الساخن ونشاهد درب التبانة في لحظة هي الأشدبهاءًا تغنيننا عن كل شيءٍ في هذا العالم؛ تحضرني عبارة محمود درويش “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”؛ وأنا أزيد : “على هذا الكوكب ما يستحق التبجيل”.
سؤالٌ حملَجوابه قدراً من النبل؛ يدور حول المغزى الذي يود محمد وأخيهإيصاله من هذه الفيديوهات الاحترافية التي توثق جولاتهما؛ يقول: “وهبتنا”الطبيعة الأم” الحياة، أرضًا لنلمس، سماءًا لنحلّق وبحرًا لنسبح، ألا يتوجب علينا رد جزءٍ صغير من الجميل؛ كم يحزنني ما يقترفه البشر من خطايا تجاه هذا الكوكب، إنهم لا يدركون حجم الدمار البيئي الناجم عن تلك التعديات؛ وما رأيته من قدرات بشير في المونتاج جعلني أفكر كيف لنا أن نساعد الطبيعة من خلال إبراز مفاتنها كي نحافظ على ما تبقى منها؛ لذاأطلقنا صفحتنا على مواقع التواصل الاجتماعي ونالت استحسان الكثير من المتابعينخلال مدة قصيرة”.
أمام جبروت الخالق
التطرق إلى صورةٍ تتبوأ مكانة خاصة لديه؛ أثار في عينه وميض غريب؛ يتنحنح قبل أن يقول:” أبلغ من العمر ما يكفي لأفهم ألم الفصل وقسوته، وكيف لقلب المرء أن ينفطر بسبب حاجزٍ شائك يحول بينه وبين من يحب، هي صورة تؤكد لي أن كل تلك الحواجز يجبأن تسقط، على جانبها الأيمن تقعألمانيا؛ وفي جانبها الأيسر النمسا؛ مدخل الخيمة في إحداهما والمخرج في الأخرى، هنا نمنا، شربنا الشاي وتبادلنا الحديثفي كلتا الدولتين معاً، دون ألم، دون فصل؛ بالنسبة لنا الأمر يتجاوز خيمةً منصوبةً بالعراء، إنما هو حُلم ننام لأجله كل ليلة”.
هذا الشاب لديه يقين مطلق “أن من يحترم الطبيعة الأم لا بد لها و أن تحترمه”، ووفقاً لذلك يتعامل معها بتأهب فائق؛ موضحاً مقصده: “إن لقاء العمالقة يستدعي الكثير منالتحضير يعني أن نأخذ بالحسبان أدق التفاصيل كموعد الغروب مثلا، و الطقس وجغرافية المنطقة”.
ويؤكد أن التخطيط للمغامرة جزء من المغامرة نفسها؛ فعلى مدار سنواتٍ طويلة جمع الكثير من الخرائط استطاع عن طريقها الزحف لأماكِن لم يدخلها بشر؛ متابعاً: “الأمر ليس سهلًا البتة حين نتسلق الجبال بين صخورٍ شاهقة بالإضافة للتصوير، ، لكن عندما يُخرج أخي فيديوهات توثق صيرورة الرحلة بكل تفاصيلها نشعر فعلاً كم استحق ذلك منا كل المجهود؛ وأن لحظة النهاية يهون أمامهاتصلب أقدامنا، حينها ننسى مشقة الطريق وطوله”.
وأمام كل مشهد يزداد خضوعهماأمام جبروت الخالق وعظمته؛ حيث انتصاب الجبال، والتسبيح من حفيف الشجر وخرير المطر، ليست مبالغةً أن ينطق بعبارة كهذه “في تلك اللحظات لا يسع للمرء ألا أن يخرّأمام حب المكان وحب خالق المكان”.
هي ما يحاول محمد جاهداً تصويبها: “رحلاتي لا تقل جمالاًعنها بل هي أكثر غنى بمعالم البلاد؛.فكرة “الرحلات الباذخة”يحزنني أن ينصبّ تركيز البعض على الإقامة في الفنادق الأفخم والمطاعم الأكثر عجباً،شخصيًا رحلاتنا لا تُكلف الفرد أكثر من عشرين يورو أي ما لا يتجاوز المئة شيقل، بما فيها القطار الذي يقلّنا إلى الوجهة المطلوبة؛ زادنا وخيمتنا معناولا نتلهف إلا لاكتشاف طبيعةٍ جديدة؛ و رسالتنا بوضوح أننا بوسعنا جعل السفر ليس مكلفاً؛ وبمتعة أكبر؛بما يحققإثراء الروح وإنعاش الجسد”.
أما السعادة فلا تتنزل عليهما فقط وقت العزلة في “أحضان الجنة”؛ بل حين يلتقيان برحالةِ على غرارهما؛ فحسب رأي محمد أن “قصص هؤلاء القوم لا تُمل، ولعله لا ينسى نصيحة مغامرٍألماني قال له:”المغامرة هي أن تعيش الحياة التي تحلم بها وتجعلك سعيداً”.
ابتسامته في ختام الحديثتتسع؛ مقدماً اعترافه: “أعظم صورٍ التقطناهاكانت لتلك المناطق التي جاهدنا للوصول اليها، لأماكنٍ تطلّبت منا المشقة وخارت قوانا في الطريق اليها، ليَثبت أن عاقبة الصبر الجميل جميلة، ومن يطلب نصيحتي أقول له “على المغامر التحليبالصبر والتروي، والهدوء وقت الشدائد؛ والتفكير بتوازن عند المصاعب؛ فالطبيعةُ لا تقبل التفاوض؛ إما الخضوع لها واحترام قوانينها؛أو الخسارة”.